أرشيف

هذا البلد لن يحظى بديكتاتور!

  ماذا لو حظينا بديكتاتور؟
 
اشعر بالأسى حقاً. إذ لا يملك علي عبدالله صالح رفاهية أن يصبح ديكتاتور في ليلة وضحاها ، ديكتاتور مثلما ينبغي للديكتاتور ان يكون عليه. 
هذا حلم بعيد المنال بالنسبة للرئيس صالح كما بالنسبة لليمنيين.

كان بوسع الرجل ان يكون كذلك في تسعينات القرن المنصرم .. كانت الموارد لا تزال واعدة والتحديات اخف وطأة. لكن ليس الأن .
 
السبب بسيط .. قدرة الدولة بشقيها المدني والعسكري ، باتت عملياً على درجة من الضعف بحيث يستحيل معها النظر إلى علي عبدالله صالح كديكتاتور للمستقبل .
 
ناهيك عن الأسباب الأخرى .. تلك التي لها علاقة بالنظام الإجتماعي المعقد ونمط الاقتصاد والتاريخ السياسي لليمن.
 
لا يظن أحد بأنني أمزح فعند مطالعتي للتصنيفات التي يشرحها تشارلز نيللي مؤل كتاب (الديمقراطية)
 
تبين له : أنه من المتعذر إدراج اليمن تحت أي من نماذج أنظمة الحكم التالية : غير الديمقراطي ذو القدرة العالية للدولة (كازاخستكان ، ايران) .
 
الديمقراطي ذو القدرة العالية للدولة (النرويج، اليابان) .
 
الديقمراطي ذو القدرة الضعيفة للدولة (جامايكا، بلجيكا).
 
أفكر أن اليمن قد يصبح (لا أدري متى؟ ) أقرب إلى النموذج الرابع منه الى أي شيء أخر غير الديمقراطي ذو القدرة الضعيفة ، جنباً الى جنب مع الصومال والكونغو وكينشاسا. يتميز هذا النموذج ، وفقاً لتشارلز نيللي بامراء حرب ، وتكتلات اثنية ، وتعبئة للقوى الدينة ، وصراعات عنيفة متكررة بما فيها الحروب الاهلية عناصر سياسية متعددة ، بما فيها مجرمون ينشرون قوى التدمير والموت.
 
لكن ماذا لو توخينا الدقة ؟
 
لقد كتبت الفقرات السابقة على سبيل التميم والجزم.
 
وهذا خاطئ فالامور في اليمن أكثر تعقيداً مما تبدو عليه .
 
وتعلمت من المفكر اللامع تيري أنجلتون أن أي خطأ معرفي في تشخيص طبيعة نظام الحكم .

قد يتسبب في حدوث اثار محرجة على الممارسات السياسية.

على سبيل المثال ، اعتادت الطبقة السياسية في اليمن على الإشارة الى نظام علي عبدالله صالح بمفاهيم سائدة من قبيل ديمقراطي ، ديكتاتور، شمولي، عسكري .
 
وهذه مفاهيم خداعة , وحمالة اوجه ففي بلد أخر كان يمكن حسبان الفراغ الفوضوي الكبير الذي يتركه عجز وانكماش الدولة مؤشراً ديمقراطيا ً، فالدولة في الديمقراطيات الليبرالية ، تتسم عادة بمحدودة سلطاتها ، كي لا اقول على غرار فرانسيس فوكوياما ، أنها تتسم بالضعف على النقيض منها تقع الأنظمة الشمولية التي تفرط في الإرتكاز على القوة لتحجيم مجال الحريات الفردية.
 
لكن من السخف بمكان اعتبار العجز الذي تبدو عليه الدولة اليمنية ، في ما يتعلق بالقيام بوظائفها البسيطة وفرض سلطاتها سمة ديقمراطية ليبرالية.
 
ذلك أن الضعف غير الواعي في أداءات الدول لا يرفعها إلى مصاف الديمقراطيات الليبرالية ، بل يهوي بها الى قاع الدول الفاشلة.
 
في الحقيقة ليس النظام في اليمن ديكتاتوريا ً، ولن يكون , ولا هو ديمقراطي , ولا عسكري خالص , ولا شموالي ، إنه مزيج من هذا كله.

وبالتالي ، حتى لو خاض المؤتمر الانتخابات منفرداً , وحتى لو تم التصويت على تعديلات دستورية تعطي الحق للرئيس صالح بالترشح بقية حياته ، لا يعني أنه قد يصبح ديكتاتوراً ناجزاً بقدر ما يعني (إلى جانب التأكل المحتم لشرعية حكمه بالطبع) الإرتخاء الحاد , والهدام لسلطته , استشراء المزيد من الحريات غير المنظمة الحريات الغريزية المسلحة ، تنامي الاستياء الإجتماعي بالتزامن مع غياب قوى سياسية من شأنها تحويل الإستياء إلى معارضة سياسية وطنية ، انشقاقات بنيوية تطال معظم مكونات البلد ، ثم الحرب الشاملة الجميع ضد الجميع.
 
على أنني أميل إلى قراءة القياسات التي تقدمها مراكز البحوث بشأن الديمقراطية في اليمن بطريقة عكسية مثلاً ، بقليل من التأمل في المؤشرات السنوية التي يقوم باعدادها بيت الحرية.

يمكن ملاحظة : كيف أن اليمن تأرجحت خلال العقد الأول من الألفية بين الحرية الجزئية , واللاحرية الكاملة؟. ففي الأعوام 2002 و 2003و 2004و 2010 تم تعبئة خريطة اليمن باللون الأزرق الذي يرمز إلى إنعدام الحرية التام (not free ) لكن من العام 2005م إلى 2009م اكتست خارطة اليمن لدى ( بيت الحرية ) باللون الأصفر الذي يعني (partly free ) أو حرية جزئية , وهو مستوى متقدم بالنسبة الى دولة شرق أوسطية.
 
وفريد هاوس (freedom house ) بيت الحرية هي ( منظمة دولية غير حكومية مقرها واشنطن أنشأتها عام 1941م زوجة الرئيس الامريكي الراحل روزفلت، السيدة الينور روزفلت ) ، والمنظمة متخصصة باجراء بحوث وتقييمات مستمرة حول الديمقراطية ، والحرية السياسية وحقوق الإنسان.
 
عندما ينتهي بيت الحرية في تقييمه لحالة بلد ما إلى خلاصة مفادها ” أن الحريات منعدمة فهو بلا شك يشير إلى أن قبضة الدولة متغلغلة أكثر من اللازم , وصلبة لدرجة الإجهاز شبه الكلي على الحريات المدنية والحقوق” . لكني فيما يتصل باليمن ، أحب الإعتقاد دائماً بأن ” اللاحرية كاملة ، تعني إنفلات كامل ، ضعف كامل لقدرة الدولة ، و مزيد من الحريات الفوضوية , والتمردات وأعمال العنف “. في جميع الأحوال لا مكان للطمأنينة .. لا يمكن للبيت اليمني أن يكون بيتا للاحرية الكاملة , ولا للحرية الكاملة .. ليست البيت اليمني من الهشاشة بحيث لا يمكن للحرية الكاملة أن تقطنه دون أن تحيله إلى رماد.
 
في يوم ما قريب أو بعيد .. قد يحظى اليمنيون بحرية .. حرية لا حدود لها ، لكنها حرية ، ويا لتعاسة الحظ بلا مأوى ، بلا بيت ، حرية براري لأناس بدائيين يهيمون على وجوههم والدماء تقطر.
 
من سخرية القدر أنه لا يمكن لهذا البلد أن يحظى بديكتاتور يوماً ، لكي يستمر بلداً على الاقل.
. ……………….
 محــــــمد الــــــعـلائــي
 [email protected]
 
*ـ نقلاً عن صحيفة المصدر الصادرة يوم / 4ــ ينايرــ 2011م

زر الذهاب إلى الأعلى